كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن مالك: أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغًا أنْفِذَتْ معه مقاتلها، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة، لا تصحّ ذكاتها، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة.
وهذه رواية ابن القاسم عن مالك، وهو أحد قولي الشافعي.
ومن الفقهاء من قالوا: إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح.
وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، واختاره ابن حبيب، وأحد قولين للشافعي.
ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة، إلاّ أنّ يقال: إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات، وهو بعيد.
ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله: {وما أكل السبع} على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظرًا إلى غلبة هذا الصنف بين العرب، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيرًا، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة.
{وما ذُبح على النُصب} هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب.
والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب، فهو مفرد مراد به الجنس، وقيل: هو جمع وواحده نِصاب، ويقال: نَصْب بفتح فسكون {كأنّهم إلى نَصْب يوفضون} [المعارج: 43].
وهو قد يطلق بما يرادف الصنم، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد.
والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب.
وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها، فقد روى أيمَّة أخبار العرب: أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة، وهم ولد إسماعيل، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا: الكعبةُ حجر، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة، فنصبوا هذه الأنصاب، وربما طافوا حولها، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم.
وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة.
وعن أبي رجاء العطاردي في صحيح البخاري: كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرًا خيرًا منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرًا (أي في بلاد الرمل) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به.
فالنصب: حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل: مِثل حجر الغَبْغَببِ الذي كان حول العُزّى.
وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه، فيأكلون بعضه ويتركون بعضًا للسدنة، قال الأعشى، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه:
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه

وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ: {إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم}.
وفي حديث فتح مكَّة: كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصبًا، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم.
وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها، تمييزًا بين ما ذُبِح تديّنًا وبين ما ذبح للأكل، فمن ذلك صخرة بيت المقدس، قيل: إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح، لأنَّها تسقط فيها الدماء، والدمُ يسمّى رُوحًا.
ومن ذلك فيما قيل: الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة.
ومنها حجر المقام، في قول بعضهم.
فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ.
وفي البخاري عن ابن عباس: النصُب: أنصاب يذبحون عليها.
قلت: ولهذا قال الله تعالى: {وما ذبح على النصب} بحرف (على)، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ، وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك.
ووجه عطف {وما ذُبح على النصب} على المحرّمات المذكورة هنا، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم، فقالوا: كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن، وبخاصّة الصبيان، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة: أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له: أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى (صَنَممِ دوس).
فقال: لا، أنا ضامن، فأسلمتْ، ونحو ذلك، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته.
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله: {يا أيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90] الآيات.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ}.
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله، وهي المحرّم أكلها.
فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة، فتكون السين والتاء في {تستقسموا} مزيدتين كما هما في قولهم: استجاب واستراب.
والمعنى: وأن تقسموا اللحم بالأزلام.
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله: هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ؟.
وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مرادًا من النهي أيضًا، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه، فتكون إرادته إدماجًا وتكون السين والتاء للطلب، أي طلب القِسم.
وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه، أي طلب معرفته.
كان العرب، كغيرهم من المعاصرين، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلامًا.
والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له: قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه.
وكيفية استقسام الميسر: المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} الآية في سورة البقرة (219).
وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما استقسمتم عليه بالأزلام، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى {وأن تستقسموا بالأزلام}، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما، وذلك إدماج بديع.
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح: أحدها مكتوب عليه «أمرني ربّي»، وربما كتبوا عليه «افْعَلْ» ويسمّونه الآمر.
والآخرُ: مكتوب عليه «نَهاني ربّي»، أو «لا تَفْعَلْ» ويسمّونه الناهي.
والثالث: غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة.
فإذا أراد أحدهم سَفرًا أو عملًا لا يدري أيكون نافعًا أم ضارًّا، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ، فإذا خرج الذي عليه كتابة، فعلوا ما رَسَم لهم، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة.
ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة، صنم خَثْعَم، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال:
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا ** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا

لم تَنْهَ عن قَتْللِ العُداة زُورا

وقد ورد، في حديث فتح مكة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال: «كذَبوا والله إننِ استقسمَ بها قطّ»
وهم قد اختلقوا تلك الصورة، أو توهّموها لذلك، تنويهًا بشأن الاستقسام بالأزلام، وتضليلًا للناس الذين يجهلون.
وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم، ومن حكّامهم، وكان مِنها عند (هُبَل) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئًا من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم، كتبوا على أحدها العقل في الديَة، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛ وأزلام لإثبات النسب، مكتوب على واحد «منكم»، وعلى واحد «من غَيْركم»، وفي آخر «مُلْصَق».
وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها.
وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له: أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها.
وكان الرجل قد يتّخذ أزلامًا لنفسه، كما ورد في حديث الهجرة «أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره».
والإشارة في قوله: {ذلكم فسق} راجعة إلى المصدر وهو {أن تستقسموا}.
وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن.
والفسق: الخروج عن الدين، وعن الخير، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين} في سورة البقرة (26).
وجعل الله الاستقسام فسقًا لأنّ منه ما هو مقامرة، وفيه ما هو من شرائع الشرك، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها، إذ ليس الاستقسام سببًا عاديًّا مضبوطًا، ولا سببًا شرعيًّا، فتمحّض لأن يكون افتراء، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفًا عن مراد الله بهم، من الكذب على الله، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسبابًا عقليّة: هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل، أو من أدلّته، كالتجربة، وجعل أسبابًا لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل: كجعل الزوال سببًا للصّلاة.
وما عدا ذلك كذب وبهتان، فمن أجل ذلك كان فسقًا، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب.
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم، ومعنى عين أنها كثيرة المطر.
وأمَّا أزلام الميسر، فهي فسْق، لأنَّها من أكل المال بالباطل.
{اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون}.